نقد «الرأسمالية والحرية»: هل يعيش العالم جحيماً بسبب قصر نظر أبرز الاقتصاديين الأمريكيين؟

أثناء قراءتي لكتاب «الرأسمالية والحرية» لميلتون فريدمان، بدا لي أن بعض الافتراضات التي تُطرح على الورق قوية نظرياً، لكنها تنهار أو تتشوه عند ملامستها للواقع. في كثير من دول العالم الثالث شهدنا تقليص دور الدولة بشكل جذري في تنظيم الأجور أو الإيجارات أو تقديم خدمات أساسية مثل التعليم والإسكان وحتى المنتزهات الوطنية، فحلّت الفوضى مكان النظام وتوسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء وضعُف أي أمن أو حماية للمواطن العادي. كيف نضمن أن القطاع الخاص سيؤمن هذه الخدمات وليست خدمات بديلة؟ وكيف سيكون ذلك عادلاً؟ هناك أمثلة كثيرة لدول قامت بإزالة الدولة من هذه القطاعات بالكامل، وأدت النتيجة إلى غياب أبسط درجات الخدمات والترفيه، وترك المواطن عرضة لأهواء أصحاب رؤوس الأموال، خصوصاً في مجتمعات تعاني بالفعل من غياب العدالة والحريّة حيث تتسع الفجوة أكثر. ربما أغفل الكاتب أن هناك دولاً خارج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا توجد فيها تشريعات أو قوانين تحمي المواطن من تلك الأهواء؛ وكمثال، إن لم تكن معظم دول العالم حالياً، فهما أمريكا والاتحاد الأوروبي أنفسهما قبل وجود هذه التشريعات والقوانين.
الحديث عن دعم سعر الصرف المرن بعيداً عن بنية اقتصادية متوازنة يحوّل هذه المرونة من ميزة إلى نقطة ضعف. إذا لم يكن المعروض السلعي متوفراً بشكل نسبيّ ومستقر، وإذا كانت قوى العرض والطلب الأخرى غير موزونة، تصبح تقلبات سعر الصرف مصدر صدمات متكررة تُضعف الاقتصاد بدل أن تدعمه. لا فائدة من حرية جزئية في جانب ما إذا كانت البيئة المحيطة بها تخلق اضطراباً في الجوانب الأخرى.
النقد الأكثر حدة لا يذهب فقط إلى فريدمان، بل إلى مؤسسات تمويل دولية كثيرة تُشجّع تقليص دور الدولة كشرط للحصول على القروض، وفي الوقت نفسه تطالب بزيادة الضرائب لسداد القروض التي تمنحها هي نفسها. في قطاعات مثل التعليم، إذا كانت الدولة لن توفر هذه الخدمات، فلا يجب أن تواصل تحصيل الضرائب مقابلها وتترك حرية التصرف لأولياء الأمور؛ لكن هذه المؤسسات تقرض الدول، تحصل الفوائد على تلك القروض، وتضع شروطاً على الحكومات المستفيدة بزيادة تحصيل الضرائب لتسديدها. أي نفاق هذا؟! لن توفر الدولة التعليم مقابل ضرائب تُجمع من المواطنين لتسديد قروضكم؟ تُطالَب الدول بالتخلي عن تقديم الخدمات الأساسية ثم تُكبَّل المواطنين بالتزامات مالية جديدة؟ هل هذه المؤسسات مستعدة لإسقاط كل ديونها لتصبح الضرائب مخصصة فقط للتشريع والرقابة؟ أشك في ذلك.
مثال واضح على تكتيكات الضغط والتفاوض هذه هو ما رأيناه في سياسات فرض الرسوم الجمركية في عهد ترامب: يُطرح رقم مبالغ فيه (مثل 50%) كوسيلة ضغط، ثم يُقبل الطرف الآخر بتنازل معتدل (مثل 15%)، ويُسوَّق هذا التراجع كأنه انتصار كبير. نفس المنطق يتكرر في ضغوط تُمارَس لتطبيق سياسات ليبرالية حديثة: ما يُسوَّق له باسم "السياسات الليبرالية الحديثة"، تُفرض في البداية شروط مبدئية متطرفة مثل خصخصة عاجلة، تقليص دعم السلع، خفض الإنفاق على التعليم والصحة، وتحرير أسعار الصرف، ثم يُسوَّق أي تأجيل أو تنازل طفيف لاحق كدليل على التقدّم والاعتدال. سرعان ما تظهر الآثار السلبية: تدهور في مستوى المعيشة، انكماش اقتصادي، فتُستخدم هذه الأزمات ذريعة لإعادة فرض شروط أشد تقشفاً بحجة «إصلاح المسار». تتشكل دوامة لا تنتهي، حيث تتحول المطالب القصوى إلى معايير جديدة تُبرر بها تشديدات إضافية بدل أن تؤدي إلى تصحيح حقيقي ومستدام.
بعد عقود من الترويج لهذه النظرية، لم نصل إلى نظام منافسة حقيقية متوازنة، بل إلى تركيز متزايد للثروة والقدرات الإنتاجية في أيدي قلة قليلة. شركات يُفترض أن تتصرف بمسؤولية اجتماعية تتجاهل التزاماتها الضريبية والبيئية، وتُعطي الأولوية للمكاسب السريعة على استدامة طويلة المدى. إذا كانت النظرية تهدف إلى نقد تجاوزات التدخل الحكومي، فيجب أن نُطبق نفس المنهجية على النظرية نفسها: هل كانت الحرية المطلقة إلا سبباً في إنتاج نظام غير متوازن يُعمّق الفوضى ويهمّش العدالة، وماذا أعطت لنا بدلاً من ذلك؟
الخلاصة التي أستخلصها من التفاعل بين النظرية والتطبيق هي أن التوازن هو المفتاح. لا وجود لسوق حر حقيقي من دون قواعد واضحة، ولا يمكن أن تُغيب الدولة بالكامل. الحرية الاقتصادية تحتاج إلى إطار تشريعي وتنظيمي، رقابة تقي من الاحتكار، وحماية لمن لا يملكون قوة تفاوضية. الدولة يجب أن تكون منظمًا ذكيًا يُصلح الانحرافات دون أن يُعيق الفاعلية، ويوازن بين الكفاءة والعدالة. الاقتصاد المستدام هو ذلك الذي يوفّق بين المبادرة الفردية والمسؤولية الجماعية داخل إطار يضمن ألا يُهمَل المجتمع كله عندما ينجح قِلّة.
Comments ()